سورة المزمل - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المزمل)


        


{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي ادعه بأسمائه الحسنى، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة.
وقيل: أي اقصد بعملك وجه ربك، وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عما سواه.
وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته.
وقال الكلبي: صل لربك أي بالنهار.
قلت: وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار، إذ هو قسيمه، وقد قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62] على ما تقدم.
الثانية: قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال: بتلت الشيء أي قطعته، ومنه قولهم. طلقها بتة بتلة، وهذه صدقة بتة بتلة، أي بائنة منقطعة عن صاحبها،، أي قطع ملكه عنها بالكلية، ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتل، لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها *** منارة ممسى راهب متبتل
وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات.
وقيل: إن أصله عند العرب التفرد، قاله ابن عرفة. والأول أقوى لما ذكرنا. ويقال: كيف قال: تبتيلا، ولم يقل تبتلا؟ قيل له: لان معنى تبتل بتل نفسه، فجئ به على معناه مراعاة لحق الفواصل.
الثالثة: قد مضى في المائدة في تفسير قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. قال ابن العربي: وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعز به أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله، وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الامر غير متعلق النهي، فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم، فالتبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة، كما قال تعالى: {وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.


{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)}
قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص رَبُّ بالرفع على الابتداء والخبر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وقيل: على إضمار هُوَ. الباقون {رب} بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} {رب المشرق} ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} أي قائما بأمورك.
وقيل: كفيلا بما وعدك. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} أي من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم. {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} أي لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الامر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك، قاله قتادة وغيره.
وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم. قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في الأنفال.
وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة.
وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. {أُولِي النَّعْمَةِ} أي أولى الغنى والترفه واللذة في الدنيا {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.
وقيل: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا يعني إلى مدة الدنيا.


{إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)}
قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً} الأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة.
وقيل: سمى نكلا، لأنه ينكل به. قال الشعبي: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.
وقال الكلبي: الأنكال: الاغلال، والأول أعرف في اللغة، ومنه قول الخنساء:
دعاك فقطعت إنكاله *** وقد كن قبلك لا تقطع
وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد، قاله مقاتل. وقد جاء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يحب النكل على النكل» بالتحريك، قاله الجوهري. قيل: وما النكل؟ قال: «الرجل القوي المجرب، على الفرس القوي المجرب» ذكره الماوردي. قال: ومن ذلك سمى القيد نكلا لقوته، وكذلك الغل، وكل عذاب قوي فاشتد، والجحيم النار المؤججة. {وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ} أي غير سائغ، يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزقوم والضريع، قاله ابن عباس. وعنه أيضا: انه شوك يدخل الحلق، فلا ينزل ولا يخرج.
وقال الزجاج: أي طعامهم الضريع، كما قال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] وهو شوك كالعوسج.
وقال مجاهد: هو الزقوم، كما قال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 44- 43]. والمعنى واحد.
وقال حمران بن أعين: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ}
فصعق.
وقال خليد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً فقال: أرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوه. ومثله في الثالثة، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم، فجاءوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. والغصة: الشجا، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعها غصص. والغصص بالفتح مصدر قولك: غصصت يا رجل تغص، فأنت غاص بالطعام وغصان، وأغصصته أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم. قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ} أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب يَوْمَ على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ.
وقيل: بنزع الخافض، يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال.
وقيل: العامل ذَرْنِي أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال. {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا} أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع- قال حسان:
عرفت ديار زينب بالكثيب *** كخط الوحي في الورق القشيب
والمهيل: الذي يمر تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبي: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال.
وقال ابن عباس: مَهِيلًا أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك: هلت عليه التراب أهيله هيلا: إذا صببته. يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول، ومدين ومديون، ومعين ومعيون، قال الشاعر:
قد كان قومك يحسبونك سيدا *** وإدخال أنك سيد معيون
وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم شكوا إليه الجدوبة، فقال: «أتكيلون أم تهيلون» قالوا: نهيل. قال: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه». وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو مهال ومهيل. وإنما حذفت الواو، لان الياء تثقل فيها الضمة، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.

1 | 2 | 3